Fatimah (Dubai) review
fatma review2

كان حضوري لدورة صناعة العطور الطبيعية مع العطار عبدالسلام حدثاً جميلاً في حياتي، وسأحاول عدم المبالغة في وصفه بأن هذا الحدث غير الكثير من اتجاه بوصلتي في الحياة بشكل عام.

مالذي حصل؟ كنت وقتها في رمضان من عام ٢٠١٧ حين قررت أن ابدأ في التركيز على شيء جديد أحبه، كانت العطور ومازالت جزءاً من ذاكرتي الحية، بدءً بطفولتي وكل مراحل حياتي، والأمر الآخر الذي جذبني أكثر لحضور الكورس هو أنني أنحدر من عائلة قد عُرفت بصناعة العطور كهواية شخصية، أو لنسميها كهوية شخصية جداً، وهذا ما شهدته في طفولتي في حين اجتماع والدتي وصديقاتها من العائلة حول زجاجات العطور التي في الغالب تكون قد اقتنوها في رحلتهم الأخيرة للهند، كنت اسمع منهم أسماء الزيوت العطرية ولم أكن استسيغ رائحتها في البدء ولكني أُدهش بالعطر النهائي الذي يفوح في نهاية الجلسة التي تكون قد كللت بنجاح تام وسعادة تعلو الوجوه التي تشعر بأن الطيب جزء لا يتجزأ من وجودهم وبهجتهم وطراز حياتهم الشخصية.

وجدتني أبحث عن كورس قريب لصناعة العطور، لم أكن أميل جداً لحضور كورس إلكتروني ولكني استعنت بالتكنولوجيا لفتح نوافذ جديدة لي، وكانت دورة صناعة العطور بعنوان ”صناعة العطور سهلة“ للعطار عبدالسلام قد لفت انتباهي، شعرت بالرهبة وأنا أبحر في موقعه، كل هذا الزخم، كل هذا التاريخ الذي وثقه في مدونته الخاصة وفي موقعه، كنت أشعر بأني وقعت على كنز عظيم، كنز مدهش أبقاني في حالة جميلة لعدة أيام، وكنت قد وجدت الكورس الذي شعرت بأنه يناسبني في هذه المرحلة، وكان قد تبقى كرسيين أخيرين، دونت معلوماتي وكتبت لسلام سبب رغبتي في الانضمام. بعد بضعة أيام أتاني الرد وتم قبولي في الكورس بعد أن أسدد مبلغ الحضور. في تلك المرحلة شعرت بأنني سأمر في تجربة جديدة وقد بدأت بالفعل للتو بشكل رسمي.

بعد مرور حوالي أيام بسيطة قام عبدالسلام بفتح مجموعة على برنامج الوتس آب، يضم فيه كل المشاركين في الدورة، كانت الرهبة قد تبددت قليلاً، فبدأنا نقرأ المقالات التي يشاركنا بها، واقتناء الكتب التي ستساعدنا في الدورة، وبعد بضعة أيام أخرى بعث لنا صندوقاً يحوي صندوقين خشبيين، وقد طلب منا البدء في تجربة الزيوت العطرية التي أرسلها والتعرف عليها بعد قراءة الملف الصغير الذي يحوي على كل المعلومات. وطلب منا أن نبدأ في التداوي بهذه الزيوت، وبدأنا بالفعل بالقليل من تردد ولكن رغبة في التعلم باستخدام الزيوت بنسب قليلة لعدم معرفتنا التامة أو الخبرة في التعامل مع الزيوت الطبيعية، ولكن هذه التهيأة كانت بالنسبة لنا خطوة أساسية لبناء الثقة التي سيحاول أن يمنحنا التدريب خلال اسبوع الدورة إياها. وبالفعل كانت.

مرت الأيام وحان وقت الدورة، حملت أغراضي وصندوق الإسعافات الأولية المليء فقط بالزيوت الطبيعية للمطار، ومن الصدف الجميلة كانت معي من الدورة صديقة من دولة سنغافورة ، جلسنا وتجاذبنا الحديث وطعام الإفطار في المطار، ومر الوقت وصعدنا على متن الطائرة التي ستقودنا لإحدى التجارب الثرية في حياتنا، وصلنا مطار بولونيا وكانت ”جينفر“ ابنة أصحاب المزرعة التي بها الفندق الذي سنسكنه في اسبوع الدورة في انتظارنا، ألقينا التحية وركبنا سيارتها وانطلقنا نحو المزرعة، كانت رحلة خفيفة وقصيرة، وصلنا بالسلامة واستلمنا غرفنا، والجميل بأن الغرف لا تحمل أرقاماً بل اسماء الزهور، كأنه يهيأنا للقادم الجميل، كانت غرفتي تحمل اسم فيوليتا.

رتبت أغراضي في الدواليب ووجدت رسالة من الفتيات اللاتي وصلن قبلنا بأنهم سيكونون في مطعم الفندق إن أحببنا الانضمام إليهم، بتردد ولكن لا محالة من المشاركة والتعرف على الزميلات اللاتي سأعمل معهن وأتعلم معهن هذه الفترة، غيرت ملابسي ونزلت، ألقينا التحية على بعض، لحسن حظنا لربما بأننا نأتي من بلدان مختلفة جداً، فكان فريقنا مكون من ثمانية أشخاص، من هولندا، ألمانيا، هاواي، سنغفورة، اليابان، أفريقيا الجنوبية، فرنسا وأنا من الإمارات العربية المتحدة. كنا قد انغمسنا في الحديث مع بعضنا البعض حين أتى سلام بعصاته السميكة ورداءه المميز الذي يدل على كثرة أسفاره وتنوع رحلاته، أتى مع ابنته فاطمة يلقي السلام علينا، بطريقة سلسلة وسهلة شعرنا بأن القادم يحمل الكثير من مغامرات مع هذه الشخصية المختلفة والعميقة في آن.

مرت الليلة الأولى وكنا سنبدأ أولى حصصنا غداً في التاسعة صباحاً، استيقظت في السابعة، وكنت في سباق مع الزمن في الاستعداد والصلاة والذهاب للفطور الذي كان ينتظرنا جميعاً. تناولنا فطورنا وقلوبنا ترغب في الذهاب بسرعة للكوخ الذي يقع في المزرعة لحضور اليوم الأول في صناعة العطور، كنا ننتظر سلام الذي وصل مع ابنته التي عرفها بأنها مساعدته وسكرتيرته والأنف الثاني الذي يثق به.

لن أفسد عليكم تفاصيل الحصص والاكتشاف، لربما ستجدونها مكتوبة في أماكن كثيرة في مدونته بقلمه أو بأقلام تلامذته ولكن التجربة الفعلية مختلفة، وفي كل مرة سيتغير المحتوى ليفيد كل تلميذ بطريقة مختلفة، وهو بالفعل قال بأن لكل مجموعة خصوصية مختلفة، وبدأنا منذ اليوم الأول التعرف على العطور على الروائح المختلفة، على الاستماع للموسيقى التي استخلصت من النباتات والزهور على هيئة زيوت ولكنها موسيقاها الخاصة، كنا غارقين في هذه الجنة الصغيرة من الروائح المختلفة.

مع سلام تعلمنا أن نتحرر، أن نسمح لأنفسنا بأن نؤمن بما نقوم به، بأن نتبع حدسنا أكثر، أن نثق بالذي يحدث لنا وحولنا ولا نفقد الأمل بشيء بل لكل شيء حل ولكل شيء طريقته الخاصة في أن يتم على أتم وجه ممكن.

صنعنا عطرنا الأول ونحن غير مقتنعين به تماماً، ولكننا مع الوقت بدأنا في تعلم تقدير كل عطر وتعلم حبه وقبوله وفهمه، وبعدها صنعنا عطرنا الثاني والثالث. كنا منجرفين تماماً، كأنه لم يكن في حاجة بأن يخبرنا بأن كل شيء ممكن، كأننا كنا ننتظر هذا اليوم لنبحر بلا عودة، ولا أعتقد بأنه بإمكاننا العودة بسهولة للعطور الكيماوية أو المركبات التي لا نعلم مالذي تحتويه.

من اليوم الأول كنت قد توقفت عن استعمال عطري الوحيد الذي أخذته معي من دبي، لأنني لم أكن اجرأ على استعماله أمام سلام في البداية ولكني اكتشفت في اليوم الثالث بأني لم أعد استسيغ هذه العطور عندما جربت الاقتراب منه وشمه، تنبه أنفي وعقلي بأني لم أعد أميل للعطور التي لا أعرف لها اسماً أو أصلاً في الطبيعة، اعتذرت من تلك الزجاجة البنفسجية، وظللت أفكر بدولاب العطور الذي أملك، بالعطور التي تلامس بشرتنا التي تتشرب كل شيء، بالعطور الموجودة في مواد الغسيل في الكريمات في معطرات الجسم، كنت قد بدأت في الخوف من العودة بلا خطة، حاولت مشاركة صديقاتي بمخاوفي وأفكاري، وتشاركنا جميعاً بالحلول الممكنة، بالبدائل الكثيرة وكان لسلام إلهاماً آخر أضافه لنا، حيث قال غامروا وأبحروا في اكتشاف طرقكم الخاصة في كل شيء ولا تقلدوا .. وبالفعل بدأنا في اكتشاف هذا العالم الجديد، وتجربة استيعاب العطور والروائح المختلفة، واكشتفت كيف بأن بعض العطور أو الروائح مُسجلة في تاريخنا البعيد وبأننا نحّن أو نميل لرائحة الغابات وأشجار الغابات، ولرائحة النار أو الأخشاب المحروقة، كنا غارقين جداً في تلك الغيمة المعطرة بآلاف الروائح الجميلة، وحين كنا ننتهي من الحصة صباحاً كنا نتوجه لنتناول الغداء الذي يُحضر لنا خصيصاً، كان يحتوي على الخضار بشكل كامل إلا في مرة أو مرتين أضافوا السمك المحضر بشكل بسيط جداً، وكنا ننغمس في السلطة التي يتم قطفها من المزرعة وكنا ننتعش بالطعام الطازج والقصص التي نضيفها لبعض ونضحك، كنا نضحك كثيراً ونتشارك المعلومات والتساؤلات كثيراً، والعشاء كان كالهدية لنا بعد يوم طويل كنا نجلس بالساعات بعد العشاء لنتشارك بالقصص مجدداً وبالمواقف المضحكة التي تحصل في ذلك اليوم.

مالذي تعلمته، في الحقيقة أموراً كثيراً ولكني حتى أنا لا استطيع وضع كل شيء على الورق لأنها تجربة عميقة وكل يوم أو بين فترة وأخرى أكتشف بأن شيئاً ما أو حواراً ما حصل في تلك الدورة جعلني اليوم أتوقف لأفكر مجدداً بشأن اختياراتي في حياتي. الدورة ثرية وكافية أيامها، بالرغم من أننا شعرنا في اليوم الثاني بأننا في حاجة لشهر لنفهم كل شيء ولكن في اليوم السادس شعرنا بأننا قد أوفينا أنفسنا حقها في التعلم أو لنقول بأننا ملكنا الآن الصنارة وعلينا الصيد الآن والمغامرة في الارتحال في هذا العالم الفسيح والممكن اكتشافه متى ما وجدنا رغبتنا الداخلية في ذلك.

سألنا سلام في أول يوم هل لنا رغبة في أن نصبح عطاريين/ صانعي عطور، وكنا مترددين وأغلبنا أجاب بأنها رحلة وسنكتشف في النهاية إن وجدنا هذه الرغبة أم لا، ولكن أقول لكم اليوم بكل ثقة أنا أملك ما يملكه أي عطار آخر، وهو الشغف المطلق بالعطور والقدرة على تشكيل عطور جديدة في وقت قصير .. والموضوع كله سهل وممكن وبسيط ..

فاطمة